قصة الصحابي الجليل سعيد بن عامر الجمحي من أعظم القصص في تاريخ الإسلام، فقد دخل هذا الصحابي في دين الله بقلب وإيمان راسخ بهذا الدين لا يتزعزع ولا تهزه تقلبات الدنيا. ونتعرف في هذا المقال على قصة إسلامه، وسبب شكوى أهل حمص من سعيد بن عامر.
رأى سعيد بن عامر بعينيه حادثة قلبت حياته رأسا على عقب ونقلته نقلة كبرى من خانة الكفر إلى رحاب الإيمان، وضرب مثلا رائعا في الزهد والتقوى والإقبال على الآخرة، والحرص الشديد على رضا الله عز وجل ورسوله الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام.
قصة إسلام سعيد بن عامر الجمحي
كان من حظ سعيد بن عامر الجمحي أن يكون من بين الذين شهدوا اليوم العظيم الذي اجتمعت فيه قريش عن بكرة أبيها، ولم يتخلف في هذا اليوم أحد، وكان على رأس الحاضرين زعماء قريش، ومنهم أبو سفيان وصفوان بن أمية. واحتشد الجميع؛ الكبار والشباب والنساء والأطفال.
جاء الجميع ليشهدوا الانتقام من محمد صلى الله عليه وسلم في شخص واحد من أتباعه، وهو خبيب بن عدي الذي أسرته قريش بعد فترة من موقعة بدر التي ذاقت فيها قريش ذل الهزيمة من رسول الله عليه الصلاة والسلام.
انتقمت قريش من أسيرها انتقاما في غاية البشاعة، وكأنها تنتصر بهذه الصورة غير الإنسانية، إذ أعدت خشبة لتصلبه عليها، وجهزت أسلحتها وكأنها في مواجهة جيش كبير، رغم أن هذا الشخص كان مجردا من السلاح، لكنه الغل الذي ملأ القلوب التي انكسرت بفعل الهزيمة الساحقة في بدر.
وكان الأسير أقوى صلابة من كل تلك الجموع التي احتشدت للانتقام من الإسلام والرسول الكريم، طلب هذا الرجل أن يتركوه يصلي ركعتين قبل أن يلقى وجه ربه الكريم، فسمحوا له بذلك، فصلى ركعتين، أعجب الفتى سعيد بن عامر الجمحي بجمالهما وروعتهما، وذلك رغم أنهما كانت قصيرتين، لكنه فعل ذلك لئلا يظن القوم أنه خائف من الموت.
انهال القوم على خبيب بصورة وحشية، قطعوا أجزاء من جسده بأسلحتهم، ولم تسرِ فيهم رحمة تجعلهم يتراجعون عن إيذائه، وبدلا من أن يروا فيه ضعفا وجدوه قويا ثابتا، فطرح عليه زعماء قريش سؤالا على رجاء أن يتراجع عن إيمانه الصلب، سألوه إن كان يتمنى أن يكون محمد عليه الصلاة والسلام مكانه وأن يعود إلى أهله سالمه، فأخبرهم بأنه يأبى أن تنال رسول الله شوكة في الوقت الذي يكون فيه هو آمنا بين أولاده، فما كان منهم إلا أن نزلوا فيه تقتيلا، وهو يدعو عليهم أن يحصيهم الله عددا ويقتلهم بددا.
اهتز سعيد بن عامر الجمحي لهذا المشهد اهتزازا شديدا، وظل ماثلا أمام عينيه، يشعر بالندم لأنه لم يستطع نصرة هذا الرجل وتخليصه من بطش قريش، أو على أضعف الإيمان أن يقول كلمة حق في وجه أهل الظلم الذين تجردت أفئدتهم من الإنسانية.
شاهد سعيد صلابة خبيب بن عدي في مواجهة صناديد الكفر، برباطة جأش تدل على أنه على حق، وأن ما يؤمن به له حلاوة لا يشعر بها إلا من ذاقها، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم الذي يحبه أصحابه كل هذا الحب لا يمكن إلا أن يكون نبيا مرسلا من عند الله.
أيقن سعيد أن الإسلام هو الحق وأن ما عليه قريش هو الباطل، وأن الدنيا كلها تهون في لحظات محبة صادقة لله عز وجل ورسوله الكريم. ظلت الخواطر تتوارد على ذهن الفتى، تدفعه إلى الاعتراف بما هو صواب، والنأي عن طريق الضلال، فأعلنها صريحة أنه داخل في دين الإسلام، وهاجر إلى المدينة لينال شرف الانضمام إلى صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
سعيد بن عامر والي حمص
أسلم سعيد فحسن إسلامه، وشهد مع رسول الله عليه الصلاة والسلام غزوة خيبر، وأبلى بلاء حسنا. وبعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، كان نعم المستشار لخليفتيه أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب. وعندما تولى الأخير الخلافة، أوصاه سعيد بألا يكون همه إرضاء الناس على حساب رضا الله عز وجل، وأن يحاول المساواة بين الجميع، البعيد قبل القريب. ولذلك طلب عمر من سعيد أن أن يكون واليا على حمص، لكن سعيدا طلب إعفاءه من هذا الأمر، فما كان من عمر إلا أن أجبره عليه.
وعندما جاء وفد من حمص إلى عمر بن الخطاب في المدينة، طلب منهم أن يكتبوا له قائمة بأسماء الفقراء في المدينة، فأجابوه إلى طلبه، لكنه وجد بين الأسماء المكتوبة سعيد بن عامر، فلما سأل عن هذا، أخبروه بأنه فقير، وأنه ربما يمر عليه الشهر دون أن يوقَد في بيته نار، فأعطاهم ألف دينار ليسلموها له، لكن سعيدا فزع عندما رآها وكأن نارا قد مست جسده، ولم يهدأ إلا بعد أن وزعها على فقراء المسلمين.
شكوى أهل حمص ضد سعيد بن عامر
بعد فترة من الزمن، زار عمر بن الخطاب بلاد الشام، ومن بينها حمص التي تسمى "الكويفة"، وهي تصغير "الكوفة" وذلك لكثرة شكوى أهلها. وعندما ذهب إليهم سألهم عن حال أميرهم معهم، فشكوا إليه من أربعة أمور، فجمع بينهم وبين الوالي للتحقيق في هذا الأمر.
كانت الشكوى الأولى هي أنه لا يخرج إليهم إلا بعد أن يرتفع النهار، وأجاب سعيد بأنه لم يكن يريد كشف هذا الأمر، وهو أنه لا خادم في بيته، وأنه في الصباح يعجن الدقيق لأهل بيته، وينتظر حتى يختمر، ثم يتوضأ ويخرج للناس.
والشكوى الثانية هي أنه أنه لا يستجيب لهم بالليل، وقد رد بأنه لم يكن يريد كشف هذا الأمر أيضا، وهو أنه خصص النهار لهم، وأما الليل فهو لعبادة الله عز وجل.
والشكوى الثالثة هي أنه لا يخرج إليهم يوما في كل شهر، وهو ما أجاب عنه بأنه لا يملك ثوبا غير الذي يلبسه وأنه يغسله في هذا اليوم، ثم يأتي إليهم للنظر في مصالحهم.
أما الشكوى الرابعة، فهي أنه يكون جالسا معهم، فتصيبه أحيانا غشية، فيغيب عن الوعي للحظات، وأجاب عن هذه النقطة بأنه شهد تقطيع قريش جسد خبيب بن عدي حتى فارق الحياة، فعندما يتذكر هذا الموقف يشعر بالخزي لأنه لم ينصره في هذا اليوم.
اطمأن الخليفة عمر بن الخطاب على واليه سعيد بن عامر، وبعث له بألف دينار، لكنه وزعها على الفقراء، فقد كان يؤثر الآخرة على الدنيا، رضي الله عنه وأرضاه.
المصدر:
كتاب صور من حياة الصحابة
للدكتور عبدالرحمن رأفت الباشا