كان مصير محمد عبده بن حسن خير الله سيكون مختلفا، لو سار في الطريق الذي اختاره لنفسه في وقت عصيب من حياته، عندما قرر أن يترك التعليم إلى الأبد. لم يكن التاريخ سيذكر هذا العَلَم الكبير بكلمة واحدة لو لم يجد من ينقذه من الأزمة العنيفة التي ألمت به وجعلته يكره الدراسة.
رجل واحد هو الذي انتشل الفتى محمد عبده من الضياع في بداية حياته، أنقذه من حالة الاضطراب التي كدرت عليه حياته، وجعلته يكره التعليم، ويقرر التسرب من المعهد الأزهري في طنطا، ليمارس مهنة الزراعة، ويقضي باقي وقته في هوايته المحببة إلى نفسه، وهي رياضة الفروسية التي كان يتبارى فيها مع أقرانه، ويجد فيها متعته التي لا تساويها متعة أخرى وذلك ما تكشف عنه سيرته المنشورة في الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده التي نشرها الدكتور محمد عمارة.
عندما التقى محمد عبده حسن خير الله هذا الرجل انقلبت حياته رأسا على عقب في أيام مدة لا تتجاوز أسبوعين، ليصير ما يكره أحب إليه مما يحب.
بداية محمد عبده مع التعليم:
بدأ الشيخ محمد عبده رحلة التعليم بداية صحيحة توافقت مع نفسه التي تقبل ما يلقى إليها عن طريق العقل والوجدان، وترفض الخضوع والإذعان لما لا يتوافق معهما، ولذا فإنه نجح نجاحا كبيرا في إتمام حفظ القرآن الكريم في عامين؛ لأن والده وفر له الجو الملائم للتعليم، إذ علمه القراءة والكتابة في المنزل.
وبعد أن صار الفتى محمد عبده قادرا على القراءة والكتابة، لم يذهب به والده عبده بن حسن خير الله إلى مكتب التحفيظ "الكُتَّاب" الذي يزدحم بالطلاب ويمتلئ بالضجيج، ويتولى التحفيظ فيه شيخ يأخذ في تعليم التلاميذ بوسائل العقاب التي كانت تتمثل في "السَوْط" و"الفَلَكة"، وإنما ذهب به إلى أحد المشايخ ليعلمه القرآن وحده في منزله لكي يكون مستعدا لدراسة علوم الدين، مما جَنَّبه التعرض للمهانة وأتاح له فرصة صفاء الذهن والسؤال والمراجعة مع الشيخ في هدوء، وهو ما نتج عنه إتمام الحفظ في فترة وجيزة لم تتجاوز العامين، مما جعل أهالي القرية يظنون أن هذا الإنجاز يدل على تميز هذا الشيخ، ولم يلتفتوا إلى القدرات العقلية للتلميذ محمد عبده، ولذلك دفعوا بأبنائهم إلى هذا الشيخ.
وعن هذه المرحلة يقول الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في مذكراته التي كتبها بخط يده، ونشرها تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا بعد وفاته: "تعلمت القراءة والكتابة في منزل والدي، ثم انتقلت إلى دار حافظ قرآن، قرأت عليه وحدي جميع القرآن أول مرة، ثم أعدت القراءة حتى أتممت حفظه جميعا في مدة سنتين، أدركني في ثانيتهما صبيان من أهل القرية، جاءوا من مكتب آخر؛ ليقرأوا القرآن عند هذا الحافظ؛ ظنا أن نجاحي في حفظ القرآن كان من أثر اهتمام الحافظ".
ويمكن الاطلاع على هذه المذكرات من خلال الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده.
الأزمة الكبرى في حياة الإمام محمد عبده:
بدأت بوادر الأزمة الكبرى التي تعرض لها الإمام محمد عبده رحمه الله، وكانت سببا في معاناة كبيرة له، عندما ألحقه والده بالتعليم الأزهري لتلقي العلوم العربية والعلوم الدينية الإسلامية في المسجد الأحمدي بطنطا، ومنها الفقه، ليفاجأ بطريقة التدريس التي تختلف عما تعود عليه من الفهم عندما تعلم قراءة وكتابة وحفظ القرآن الكريم، ليجد نفسه أمام مدرسين يلقون الدروس بطريقة عقيمة تخلو من روح العلم، وتعتمد على إلقاء المواد الجافة على أسماع الطلاب، دون شرح ما غمض عليهم من مصطلحات ليس لهم عهد بها من قبل، وربما كان المدرسون أنفسهم لا يفهمون تلك المصطلحات العلمية، فيلقونها على أذهان الطلاب إلقاء لا يتعدى أداء الواجب الوظيفي، ودون درس لهذه المصطلحات، يؤدي إلى أن يفهم كل طالب ما يقولونه.
ظل الأستاذ الإمام محمد عبده في هذه المعاناة النفسية لمدة عام ونصف العام، ولما عزم على أن يتخلص من هذا العبء الكبير الذي لم تتحمله نفسه. نفذ قراره بالهرب من التعليم، ولأن ما عزم عليه خطير فإنه لم يكن في مقدرته العودة إلى بلدته لمواجهة والده، خاصة أنه كان يضع عليه أملا كبيرا في أن يكون من المشايخ الذين يشار لهم بالبنان بالأزهر الشريف، وقد يكون حلمه أكبر من ذلك، وهو أن يكون ابنه شيخًا للأزهر في المستقبل، ويسطر اسمه في التاريخ الإسلامي ضمن علماء البلاد المصرية، وهو ما يجعل أسرة الفتى في مكانة رفيعة.
أخذ الفتى محمد عبده قليلا من الوقت في التفكير، ولم يكن أمامه إلا أن يختفي لدى أخواله، لعل نفسه تهدأ من هذا الصراع، إلى أن اكتشف أخوه هذه الفعلة الشنيعة بعد ثلاثة أشهر، فحاول إجباره على العودة إلى الدراسة في الأزهر.
وفاجأ الشيخ درويش الفتى بالمزيد عندما لم يكتفِ بأن أحسن الإنصات إلى ما يقرؤه محمد عبده، وإنما شرح له ما هو مكتوب بأسلوب واضح، على عكس ما وجده الفتى لدى مدرسي المسجد الأحمدي بطنطا الذين كانوا سببا في قرار إدارة ظهره للتعليم إلى الأبد.
يقول محمد عبده عما فعله الشيخ درويش: "فاندفع يفسر لي معاني ما قرأت بعبارة واضحة تُغالب [أي تتغلب وتنتصر على] إعراضي فتغلبه وتسبق إلى نفسي". وكأن الشيخ لم يكن يحتاج إلى من يقرأ له، وإنما كان في مهمة لإنقاذ الفتى محمد عبده من المضي في طريقه نحو هجر التعليم والاتجاه إلى مهنة الزراعة.
ولأن الصراع ما زال ساريا بين نفس محمد عبده بن حسن خير الله التواقة إلى اللهو والانصراف عن العلم وبين الأثر المحبب الذي تركه الشيخ درويش، فإن الميزان اتجه ناحية اللهو عندما جاء الشبان إلى الفتى محمد عبده يدعونه إلى ركوب الخيل واللعب بالسلاح وممارسة السباحة في النهر، فاستجاب لهم ورمى الكتاب، وقد كانت هذه الهوايات أحب الهوايات إلى نفسه.
ويمكن تفسير ما حدث بأن ممارسة هذه الهوايات كانت سبيلا للخروج من أزمته النفسية في ذلك الوقت بعد قراره الصعب بترك الدراسة، وصراعه مع والده الذي يرفض هذه الرغبة.
الإمام محمد عبده .. من كراهية العلم إلى الشغف به:
بعد صلاة العصر، رجع الشيخ درويش إلى مهمته في إنقاذ الفتى، جاء له بالكتاب، ولما حاول الفتى التهرب، ألحَّ الشيخ في طلبه، وتكرر ما حدث في الصباح من قراءة الفتى وتفسير الشيخ للمقروء، ثم انصرف الفتى للعب مرة أخرى، وفي اليوم الثاني استمرت جلسات القراءة والتفسير والانصراف إلى اللعب.
وفي اليوم الثالث طالت الجلسة الصباحية في صدر النهار لتصل إلى ثلاث ساعات دون ملل من الفتى، إلى أن استأذن الشيخ في الانصراف للعمل في مزرعته، لكن الشاب الصغير كان قد انجذب إلى القراءة انجذابا قويا، فطلب من الشيخ أن يترك له الكتاب، وظل يقرأ فيه، ووصل إلى عدد لا بأس به من الصفحات. وعندما عاد الشيخ في العصر سأله عن الأمور التي لم يفهمها في الكتاب، فشرحها له، وهو يبدي سعادته بعودة رغبة الاطلاع لدى "عبده".
هنا، كانت كفة العلم في الميزان قد رجحت على اللهو، وصار التعليم محبوبا لدى الفتى بعد أن كان أبغض شيء إلى نفسه، وذلك بفضل الشيخ درويش خضر الذي وضعه الله في طريقه لينتشله من الانصراف عن طريق العلم انصرافا نهائيا، وأصبح أحب شيء إلى نفسه هو الإنصات إلى هذا الشيخ، وهذا نابع من التربية الصوفية التي تتدرج في التغيير من السيئ إلى الحسن، إضافة إلى أن أهلها لديهم توفيق في الوصول إلى قلوب الناس، مما يجعل لهم تأثيرا في إحداث التغيير.
كان الكتاب الذي اختاره الشيخ درويش يحتوي على معارف تتماس مع الحالة التي كان يعيشها الفتى محمد عبده، وتتعلق بترويض النفس وعدم الاستجابة لرغباتها المنحرفة، وتدور حول التصوف وتطهير النفس من الصفات السيئة.
استمرت اللقاءات لمدة خمسة عشر يوما بين الفتى والشيخ الذي يجمع بين الزراعة والتصوف والعلم، والذي سافر عدة مرات إلى طرابلس في ليبيا لتلقي العلم على يدي الصوفي الكبير محمد المدني، وأخذ عنه الطريقة الشاذلية، وحفظ كتاب "الموطأ" للإمام مالك وبعض كتب الحديث الأخرى وأجاد حفظ القرآن الكريم وفهم معانيه، ثم عاد إلى قريته للعمل بالزراعة.
أثر هذا الشيخ تأثيرا كبيرا في حياة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وأشار إلى أنه مصدر سعادته في الحياة. وكان أول نتيجة من نتائج هذه الأيام عودته إلى الدراسة في المسجد الأحمدي في طنطا، ولم يكمل العام حتى انتقل للدراسة في الجامع الأزهر بالقاهرة.
محمد عبده يبحث عن العلوم غير الدينية خارج الأزهر:
لم تنقطع العلاقة بعد ذلك بين الفتى والشيخ، فقد صار دليله في الحياة، وشارح ما غمض عليه من العلم. وكانت فترة الإجازة السنوية بالأزهر تقع بين منتصف شهر شعبان ومنتصف شهر شوال، فكان الشيخ درويش حريصا على الاجتماع بالفتى، يدارسه العلم والقرآن.
ويفاجئنا الشيخ درويش بأنه يفتح عقل الفتى على علوم أخرى غير العلوم الدينية و العربية، ولم يكن للفتى عهد بالعلوم الأخرى؛ لأنها لم تكن تُدرس في الجامع الأزهر الشريف، فينصحه بأن يبحث عن الأساتذة الذين يقومون بتدريسها.
وهكذا، نكتشف أن الشيخ درويش ليس مجرد مزارع يفلح الأرض، وليس صوفيا عاديا، ولكنه شخص يحب العلوم بشتى أنواعها، وهو- كذلك- غير متطرف، فلا يتعصب للعلوم الدينية، ومنها الفقه، ويقتصر عليها وينظر إلى بقية العلوم على أنها غير مفيدة.
بل إنه زيادة على ذلك، يدفع الشيخ محمد عبده دفعا إلى البحث عن الأساتذة الذين يدرسون هذه العلوم، والذين كان وجودهم نادرا في ذلك الوقت، فقد كان يدرك بوعيه الشديد أن الابتعاد عن هذه العلوم هو سبب تخلف المسلمين وما أصابهم من ركود شديد جعلهم خارج حركة التاريخ وبعيدين عن النهضة الحديثة.
وكأن الشيخ كان يهيئ الإمام محمد عبده ليقوم بدوره الإصلاحي فيما بعد، ولكي يضع على عاتقه مهمة بث الوعي بين الناس لنفض غبار التخلف عن الأمة، ولذلك قام بدوره في التنوير و الإصلاح على أحسن ما يكون، مقتديا بالشيخ جمال الدين الأفغاني لما التقى به بعد سنوات من لقائه الشيخ درويش، وصار اسم صاحب الفضيلة الشيخ الأستاذ الإمام محمد عبده واحدًا بين أبرز علماء العصر، فهو عالم وفقيه وقاضٍ وكاتب في صحيفة الوقائع ومجدد في العالم العربي، وكذلك الأمة الإسلامية.
ويظل الإمام محمد عبده يفتش عن ضالته في العلوم التي لا تدرس في الأزهر، وكأنه يبحث عن كنز مفقود، إلى أن يجد ما يريده عندما يحدث اللقاء التاريخي بينه وبين الشيخ جمال الدين الأفغاني عام 1869، وكان محمد عبده في العشرين من عمره، فكانا معا الثنائي الذي تعاون للنهوض بالشرق وإيقاظه من الغفلة التي سيطرت عليه لعدة قرون.
الشيخ درويش ينصر محمد عبده والأفغاني:
تعرض الفتى لأزمة جديدة، عندما أخذ يتلقى العلوم المفتقدة في الأزهر لدى "الأفغاني" وتبنى دعوة الطلاب للتعلم على يديه، فكانت الحرب الشديدة من أنصار الجمود العلمي وأعداء الحضارة، ولذلك عاد مرة أخرى إلى الشيخ ليعرض عليه ما حدث، فوجد منه التأييد لاتجاه "الأفغاني" و"محمد عبده".
الشيخ درويش خضر ليس رجلا عاديا، فهو منفتح على العلوم، يرى أن التقدم يتحقق بالأخذ بالعلوم النافعة التي تصب في مصلحة الناس، وليس الاكتفاء بجانب من العلم هو الجانب الديني، فكلاهما مهم في الحياة، ولا يمكن أن تستقيم بأحدهما دون الآخر.
العلم التجريبي يحل المشكلات المادية في الحياة اليومية، ويعمل على عمران الأرض وعدم خرابها، والعلم الديني يجعل ضمير الإنسان يقظا، لا يستخدم العلم التجريبي في أذى البشر والإضرار بهم، وهو –أيضا- يمد الإنسان بالتوازن بين المادة والروح.
وهذا الأمر لا يقوم به إلا طائفة من العلماء المجددين الحريصين على أن يكون الفقه ملائما للعصر وملبيا لحاجة البيئة في الأمة العربية والعالم الإسلامي، وهو ما يتحقق بواسطة مفكر يجمع بين العلم والإصلاح والتجديد، وهو ما توفر في الأفغاني وتلميذه الأستاذ الإمام محمد عبده..
إن رجلا مثل الشيخ درويش خضر شخص بسيط جدا في حياته، لكنه يحمل من قيم التقدم ما يسبق به الكثير ممن تصدروا الساحة –في ذلك الوقت- من شيوخ الأزهر الذي أضروا بهذا الصرح العظيم وبأمتهم عندما جمدوا العلم وتوقفوا به عند مراحل سابقة قد انتهت.
وواحد مثل الشيخ درويش يستحق التحية والتكريم؛ لأنه كان وراء إنقاذ شخص أصبح من أهم دعاة الإصلاح في العصر الحديث، وأنقذه من معاناة كانت ستقوده إلى الضياع، لولا مصادفته رجلا صاحب رؤية في الدعوة الإسلامية، أثر فيه تأثيرا كبيرا، دون يكون هذا الرجل قد درس بالأزهر أو غيره من المعاهد الدينية، ولم يكن سوى واحد من الصوفية الذين نذروا حياتهم لخدمة الآخرين بحب وإخلاص، وسيظل التاريخ يذكر هذا الرجل ما دامت سيرته متداولة في الأعمال الكاملة للشيخ الإمام محمد عبده رحمه الله.