أقسام الوصول السريع ( مربع البحث )

التعايش مع الابتلاء .. والصبر على المحن

الصبر على الابتلاء من صفات المؤمنين وهو ما يظهر في المحن

 

التعايش مع الابتلاء .. صبر على المحن

    الابتلاء من الأمور التي لا يخلو منها إنسان على وجه الأرض، إذ يتعرض للمحن في محطات من حياته، بصورة تختلف من فترة إلى أخرى، فقد يصيبه المرض أو ضيق الرزق، أو غير هذا من صور الكروب. ولا يقف الأمر عند الأشخاص، وإنما يمتد إلى الدول التي تشهد جوانب من المحن، مثل تعرض الإنسانية لوباء كورونا الذي انتشر في العالم منذ نهاية عام 2019، ولذلك ليس أمام الأفراد والأمم سوى التعلق بالله عز وجل، والدعاء من أجل المرور من هذه الأمور بسلام، وقد تحدث عدد من آيات القرآن الكريم عن الصبر على الابتلاء.

الابتلاء ليس كله شرا:


    يظن كثير من الناس أن البلاء كله شر، ولكن الحقيقة أن فيه الكثير من الخير، فالابتلاء معناه "الاختبار"، وعندما تقول "ابتليته" فمعناه "امتحنته" (معجم تاج العروس). والإنسان القوي هو الذي يجتاز الاختبار بمهارة، ليخرج منه بحال أفضل من التي كان عليها.

    الابتلاء (أي الاختبار) لا يكون في الشر فقط، وإنما في الخير أيضا، فالله يختبر بعض العباد بأن يمدهم بالخيرات، لينظر هل يشكرون أم يتكبرون؟، وقد ينجح الإنسان في اختبار الأضرار التي تقع عليه، لكنه يغفل عن واجبات اختبار الخيرات التي تفيض عليه، فلا يؤدي حقها من الشكر والحمد لربه عز وجل.

أصل كلمة "الابتلاء":


    أصل كلمة "البلاء" من قولهم "بلي الثوب بلاء" بمعنى "خَلُق"، أي أن أصله موضوع لما هو ضد "الجِدَّة"، ولذلك "سُمى الغم بلاء، من حيث أنه يُبلي الجسم" (انظر: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، للفيروزابادي).

    والابتلاء يكون– في الغالب- لعباد الله الصالحين؛ لأن الله يريد أن يزيدهم قوة في مواجهة الحياة الدنيا، ويرفع درجاتهم في الآخرة، وممن ابتلاهم الله عز وجل أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، يقول الحق تبارك وتعالى: 
﴿وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ (البقرة: ١٢٤)


الأنبياء أشد الناس تعرضا للابتلاء:


    الأنبياء هم أشد الناس تعرضا للبلاء في الحياة الدنيا، فهم لا يعيشون حياة الرفاهية، وإنما يؤدون رسالتهم وسط المصاعب التي لا تتوقف حتى يحين الأجل، ويليهم في شدة التعرض للبلاء المؤمنون بحسب درجة إيمان كل واحد منهم، فقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي بأن الرجل يبتلى حسب صلابة دينه.

    ويكفي المؤمن جزاء أن يخرج من المحن والابتلاءات ليلقى ربه بصحيفة ناصعة البياض ليس فيها ذنوب وخطايا، فقد رضي عنه سبحانه وتعالى فغفر له جزاء صبره واحتماله الخطوب والمصائب، ورضاه بما قدَّره الله عز وجل، ويقينه بأنه هو وحده القادر على رفع ما يعاني منه، وأن البلاء هو محبة من الله لعباده المؤمنين، يبتليهم ليرفع درجاتهم ويجعلهم في المكانة الأفضل في الدار الآخرة.

الابتلاء اختبار للمؤمنين:


    الابتلاء من الله عز وجل لعباده المؤمنين ليس عقوبة منه سبحانه وتعالى، وإنما اختبار للتعويد على الصبر، وقد يكون بالخوف أو الجوع أو نقص الأموال والأنفس والثمرات.

    ويبتلي الله عباده المؤمنين بهذه الأشياء، ليتبين من يصبر ممن لا يطيق، فيكون الجزاء على قدر التحمل، ولذلك يقول الواحدي في تفسير "الوجيز": "فمن صبر على هذه الأشياء استحق الثواب، ومن لم يصبر لم يستحق".

    وعندما يخبر الله عباده في كتابه الكريم بأنه سيبتليهم فإنه يجعلهم على استعداد لملاقاة الصعوبات والرضا بما أراده لهم فتكون مكافأتهم أن يلقوا أحسن الجزاء. يشير القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" إلى أن الله يخبر المؤمنين بابتلائه لهم حتى "يوطنوا أنفسهم عليه، فيكون أبعد لهم من الجزع، وفيه تعجيل ثواب الله تعالى على العزم وتوطين النفس".

الصبر على البلاء دليل على الإخلاص:


    صبر العبد على البلاء دليل على إخلاصه ورضاه بقضاء الله، يوضح فخر الدين الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب" أن "إخلاص الإنسان حالة البلاء ورجوعه إلى باب الله تعالى أكثر من إخلاصه حال إقبال الدنيا عليه". والجزاء على الصبر ليس له حدود، وإنما يكون بفضل الله وكرمه وعطائه الذي لا ينفد.

    والله عز وجل عندما يختبر عباده فإنه يعلم كيف يتصرفون مع الابتلاء، وأقرب مثل لهذا في حياتنا اليومية -ولله المثل الأعلى- ما نراه من الوالد نحو أبنائه، فهو يعرف كيف يتصرف كل واحد منهم تجاه موقف واحد يمر به كل منهم، إذ إن خبرته تجعله على يقين بكيفية تعامل كل فرد منهم مع مشكلات الحياة، فما بالنا بالله عز وجل العليم والخبير بكل شيء؟.

اختلاف التعامل مع الابتلاء:


    في التعامل مع الابتلاء يظهر الاختلاف بين المؤمن وغيره من الناس، فهو يتصرف معه على أنه قدر من الله عز وجل، ويتعامل معه بالرضا والصبر، فتهون المصائب، وتصير صغيرة، يفكر في الحل، ولا يغرق في الأفكار السلبية التي تجعله يقع في حبائل الشيطان، وإنما يتجه إلى رب السماء والأرض، طالبا منه الفرج والتيسير، راجيا منه العفو والستر، ولذلك يقول الإمام أبو الحسن الماوردي في كتابه "أدب الدين والدنيا": "اعلم أن من حسن التوفيق وأمارات السعادة، الصبرَ في الملمات والرفق عند النوازل، بذلك نزل الكتاب، وجاءت السنة".

الصبر على المحن:


    عندما تمر المحن بالأفراد والأمم، فإن علاجها يكون بالصبر والأخذ بالأسباب للخروج منها، وفي مقدمتها الاستعانة بحول الله وقوته في كشف الكروب، وفي الوقت نفسه الاجتهاد للوصول إلى حلول، ومنها ما يفعله العلماء لإنتاج لقاحات وأدوية لمقاومة الأوبئة المستجدة التي لم يكن للإنسان عهد بها من قبل، ويكون هذا بالصبر، حتى يتحقق الوصول إلى الحل.

    ومن هنا نلمس بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم في وصفه الصبر بأنه "ضياء" في الحديث الذي رواه مسلم، ومعنى هذا أنه يكون وسيلة لحل المشكلات العويصة التي تعترض الإنسان في حياته ويقف أمامها حائرا، فهو يعطي الإنسان فرصة للتفكر والتدبر وتقليب المشكلة من جميع جوانبها، إلى أن يصل إلى الحل السليم. ومن الحكم العربية في هذا الشأن ما قاله أكثم بن صيفي: "من صبَرَ ظَفِرَ"، فهو وسيلة النجاة من الكروب والمصائب العظيمة والمحن الشديدة.

التعايش مع المحن:


    ليس أمام الإنسان إلا أن يتعايش مع الكروب والمحن، حتى لا يحبس نفسه في المشكلة، ويشعر بأن الدنيا ضيقة. والتسلح بالصبر يجعل الإنسان قادرا على الخروج بأقل قدر من الخسائر، وفي الابتلاء نفسه فائدة كبرى، إذ يدرب الإنسان على مواجهة التحديات واكتساب الخبرات في هذا الشأن، والوصول إلى حلول مبتكرة ربما لم يكن ليصل إليها في حال الرخاء، ذلك أنها تجعل عقل الإنسان متحفزا، يعمل بأقصى طاقة له، للوصول إلى الحلول.

الصبر على "كورونا":


    في أزمة "كورونا" الذي انتشر في العالم خلال السنوات الأخيرة، فإن الصبر على هذا البلاء شمل نوعين من الناس:

  • النوع الأول: المرضى، وهم الذين أصابهم هذا الفيروس، وتحملوا آلاما شديدة ناتجة عن وطأة المرض وما يسببه من أعراض قد تكون خفيفة مثل الرشح والكحة، أو شديدة تصل إلى الالتهاب الرئوي وتليف الرئة، إضافة إلى ما يسببه العزل من ألم نفسي وإحساس الشخص بأنه حبيس داخل مكان ضيق، وأن أحب الأشخاص وأقربهم إليه يتجنبون لقاءه ويبتعد هو عن التواصل معهم حتى لا ينقل المرض إليهم، وهذا النوع من الناس ليس أمامه إلا الصبر واحتساب الأجر عند الله واللجوء إليه بالدعاء، وجزاؤه أن الله يكفر سيئاته، كما أخبرنا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الحديث الذي رواه البخاري: "مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ المُسْلِمَ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ".

  • النوع الثاني: الأصحاء، وهم الذين يقع عليهم عبء اتخاذ الإجراءات الصحية لعدم الإصابة بالمرض، ومنها ارتداء الكمامات، رغم ما تسببه من ضيق، خاصة في فترات الحر الشديد. كما أنهم يصيبهم الحرمان من ممارسة الحياة التي اعتادوا عليها، حيث يمتنعون عن الخروج إلا في حالات الضرورة. وأشد ما يصيب المؤمنين هو حرمانهم من أداء الصلوات في المساجد، ولكن الضرورات تلزمهم الصبر؛ لأن حياة الإنسان أغلى، واجتماع الناس في مكان واحد بأعداد كبيرة يؤدي إلى انتشار المرض في المجتمع، وهو ما لا يتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية. ولذلك، ليس هناك مناص من التعايش مع البلاء والالتزام بالإجراءات الاحترازية، للوصول إلى سلامة البشرية كلها.
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-